كتاب الراية

الاستفتاء الشعبي يمهد الطريق للمستقبل

 لا جدال في أن التراث الإنساني، بما في ذلك آخر النظريات في قضايا الدستور وشؤون الحكم، هو نتاج لتراكم التجربة الإنسانية بمختلف ثقافاتها ومرجعياتها الفكرية، وهو موضع تقدير، غير أن الشعوب المدركة لذاتيتها، والواعية بخصوصية مكوناتها الثقافية والحضارية، هي المعنية بفحص ذلك التراث الإنساني ونظرياته، مقرونًا بإرثها التاريخي ومعطيات واقعها، كحال دولة قطر، من أجل التطور الموثوق، والذي يشترط التغيير المدروس. كما عبَّر حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى «حفظه الله»، في خطابه في افتتاح دور الانعقاد العادي الرابع من الفصل التشريعي الأول الموافق لدور الانعقاد السنوي الثالث والخمسين لمجلس الشورى الموقر، صباح يوم الثلاثاء 15 أكتوبر 2024، حيث تحدث، قائلًا: «إن التغيير المدروس هو السبيل الموثوق للتطور وتلبية طموحات الشعوب وتحقيق مصالحها». لقد مثَّل خطاب سموه أمام مجلس الشورى الموقر، مرآة صادقة لغدٍ قطري مشرق، دستوريًا وتنمويًا، فقد تضمن الخطاب اقتراح سموه للتعديلات الدستورية، وعرضها أمام مجلس الشورى لمناقشتها ومن ثم طرحها للاستفتاء الشعبي. كانت التعديلات الدستورية نتيجة لتجسيد أهم مرتكزات نهج سموه في التعاطي مع الشؤون الداخلية والخارجية، ألا وهو، وكما عبر عنه: «الواقعية السياسية والتقدير الواقعي لما يمكن أن نقوم به». لقد جاءت التعديلات الدستورية بعد أن خضعت تجربة الانتخابات القطرية للمراجعة والتقييم، كما حدثنا سمو الأمير، قائلًا: «وقد قمنا بذلك واستخلصنا النتائج التي قادتنا إلى اقتراح التعديلات الدستورية».
وفي حركة التطور الموثوق للشعوب، في طريق «التغيير المدروس»، فإن قادة الشعوب ومثقفيها معنيون باستدعاء خصوصية مكونات الشعوب، مع الاستقراء للتراث الإنساني بعقلانية وواقعية. وهذا ما عبر عنه معالي الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني، رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية، عندما استضافه تلفزيون دولة قطر لتناول خطاب سمو الأمير بالشرح والتفصيل والتبيين. فخاطب معاليه أهل قطر بشفافية وواقعية سياسية، كما هو ديدنه، متناولًا التعديلات الدستورية، وتجربة الانتخابات ومقارنتها بما يدور في العالم، فتحدث قائلًا: قطر تقارن بقطر كيف كانت في الماضي؟ وكيف أصبحت الآن؟ وكيف ستكون في المستقبل؟ كما استدعى معاليه إرث دولة قطر، مذكرًا بأن استقرار قطر يهيئ الفرصة لبناء المستقبل. وكُنت قد عبرت عن تلك المعاني في رسالتي للماجستير في القانون الدستوري بجامعة لورين، بكلية القانون وعلوم الاقتصاد والإدارة، بفرنسا، والتي كان موضوعها باللغة الفرنسية:
La séparation des pouvoirs « à la qatarienne « : entre prudence et progression
ويمكن ترجمة الموضوع بـ: الفصل بين السلطات وفقًا للنهج القطري بين الحكمة والتدرج والتأني. وقد تمحور الموضوع حول مقارنة دستور دولة قطر مع الدساتير الأخرى، وتمحورت مجادلتي حول الأصالة الدستورية، وعن خصوصية دولة قطر، سواءٌ من حيث المرجعية الثقافية الفكرية للمجتمع القطري، أو التجربة التاريخية، أو علاقة الشعب بالحكم. وكنت في مقدمة رسالتي قد طرحت سؤالًا مهتدية فيه بالحكمة الفرنسية التي تقول فيما معناه: أليست الحكمة والتأني أساس اليقين والأمان. ولهذا فإن صناعة الدستور، وتطور التجربة الدستورية، كما أشرت في رسالتي للماجستير، لا بد فيها من مراعاة الإدراك للذاتية، والوعي بالخصوصية الثقافية والحضارية والتاريخية، إلى جانب مراعاة تركيبة المجتمع القطري، فضلًا عن قيمه وأنماط تفكيره، وطبيعة ترابطه وخصوصية علاقة الحاكم بالمحكوم فيه.

التعديلات الدستورية الضامن للوحدة الوطنية والمواطنة المتساوية

 

إن مشروع التعديلات الدستورية، الذي وافق عليه مجلس الشورى الموقر وأقره بالإجماع ورفعه إلى سمو الأمير، في جلسته الأسبوعية العادية في دور انعقاده العادي الرابع من الفصل التشريعي الأول، الموافق لدور الانعقاد السنوي الثالث والخمسين، يوم الإثنين 28 أكتوبر 2024، يصب في تطور التجربة الدستورية القطرية الرامية لتلبية طموحات الشعب القطري وتحقيق مصالحه، وفقًا للتغيير المدروس، كما ورد آنفًا. لقد جاءت موافقة مجلس الشورى على إقرار مشروع التعديلات الدستورية ورفعه إلى سمو الأمير، بعد استعراض تقرير اللجنة الخاصة بدراسة تعديل بعض مواد الدستور، ومناقشات بناءة ومعمقة اتسمت بالحرص على تعزيز الوحدة الوطنية وترسيخ مبدأ العدل وسيادة القانون، وتحقيق المصلحة العليا للبلاد. وبهذا يكون مشروع التعديلات الدستورية وهو الضامن للوحدة الوطنية، دعوة للشراكة في بناء مستقبل الوطن وفقًا لأسس الدولة الحديثة، التي انطوت عليها الغاية من التعديلات الدستورية، حيث ذكر سموه قائلًا: «غايتان تجمعان التعديلات الدستورية والتشريعية المرتبطة بها: الحرص على وحدة الشعب من جهة، والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات من جهة أخرى».

الاستفتاء الشعبي.. دعوة للشراكة في بناء مستقبل قطر

 

بعد أن تمت شراكة أعضاء مجلس الشورى في مناقشة مشروع التعديلات الدستورية، ورفع توصياته ومقترحاته لسموه، جاء مرسوم سمو الأمير المفدى رقم (87) لسنة 2024، بدعوة كافة المواطنين ممن أتموا سن الـ 18 للمشاركة في استفتاء عام على التعديلات الدستورية، يوم الثلاثاء القادم الموافق 5 نوفمبر 2024. لتكتمل الشراكة في بناء مستقبل قطر بالمشاركة الشعبية، في الاستفتاء الشعبي.

المشاركة في الاستفتاء عنوان المواطَنة المسؤولة

 

المسؤولية موضوع مركزي في مفهوم المواطنة، وإن كانت لا تجد حظها من النقاش، ففوق الحقوق والواجبات المتعارف عليها، هناك المواطَنة المسؤولة. وهي المواطَنة المعنية في كل أحوالها بالمسؤولية تجاه الوطن، والمسؤولية تجاه المجتمع، وتجاه الأسرة، والمسؤولية تجاه الإنسانية كذلك. وهي مسؤولية تسوق لتعزيز وحماية صرح الوحدة الوطنية، من خلال الوعي بالواجبات الوطنية، ولهذا فهي تحتم المشاركة في كل ما يتصل بشأن راهن الوطن ومستقبله. ولعل ما يؤكد على المواطنة المسؤولة في إرث قطر تلك المشاركة الشعبية، التي كانت في عهد صاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، واضع أسس النهضة، وصانع قيم المواطنة المسؤولة، في الاستفتاء الشعبي على الدستور في العام 2003، حيث بلغت نسبة المشاركة في الاستفتاء 96.64%. وهذا ما تناولته في رسالتي للماجستير، كدليل وبرهان على خصوبة علاقة الحاكم بالمحكوم، ومدى تفاعل المواطنين مع دعوة صاحب السمو الأمير الوالد آنئذ، وقطعًا ستكون الاستجابة يوم الثلاثاء القادم لدعوة سمو الأمير المفدى.
وفي تقديري أن الاستجابة لدعوة حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، للمشاركة في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، هو عنوان المواطَنة المسؤولة، كون المشاركة واجبًا وطنيًا، وتُعبر عن المسؤولية تجاه الوحدة الوطنية، وتمليها وحدة المصير المشترك، وتحث عليها همة الشراكة في بناء مستقبل قطر. ولي عودة لموضوع المواطَنة المسؤولة.

ماجستير القانون الدستوري، جامعة لورين، فرنسا
إدارة الشؤون الأمريكية، وزارة الخارجية

 

[email protected]
(X): aalrumaihi24

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X