كتاب الراية

ما بين السطور.. الزمن يكرر نفسَه

كانت تنادينا، القريبة منها هي التي تدنو لتتحقق مما تريدُه، حين تكونُ جالسة أمام ماكينة الخياطة، نعرف أنها تريد منا مساعدتها في إدخال الخيط في ثقب الإبرة.
لم تكن تحتاجُ للمساعدة إلا في القليل جدًا، ومنها الخيوط والإبر.
كنا صغارًا، ونفتخر بأبصارنا السليمة، ولم نكن نعرف أننا ذات يوم سنكون مثلها، ولن تنفعنا أغلى ماركات النظارات في إدخال الخيط إلى الإبرة.. الزمن يمُر، أكل شبابها، ودفن أفراحها وسعادتها، وبدأ يتنمر عليها في قوتها وبصرها في شيخوختها.
أحيانًا أعتقد أن الزمن يكرر نفسه، كالمسلسلات الدرامية والأفلام السينمائية، التي تتكرر فيها الأحداث والأفكار والأهداف، والأبطال والأسماء، والشرور والانتقام، والأحزان، وكذلك الكثير من الروايات التي يتكرر فيها الحدثُ والفكرة الرئيسية، (القائد العظيم، القائد المغوار، ملك الحرب، حب بلا نهاية، حب دون أمل، الحب الضائع..) وغيرها الكثير من العناوين المتشابهة كثيرًا، وكأن هؤلاء الكُتاب يتداولون فيما بينهم أفكارهم، ويوزعون بينهم العنوان الرئيسي المُختلف لكل منهم، وأسماء الشخصيات والأبطال، والمواقع، بينما يظلُ الحدثُ الرئيسي يتكرر في كل تلك الحكايات وكأنها خُطت بقلم واحد، وبشخصية واحدة، حيث تُطل أنفاسُ كاتب واحد من خلال مجموعة متعددة من الروايات.
أتساءل، هل هذا ما يبدعه الذكاء الاصطناعي الذي دخل إلى بيوتنا وحياتنا، وأسرارنا، وهمساتنا، وأنفاسنا، وشخصياتنا، وأفكارنا، وأحلامنا… ثم ليُخرج للعالم تلك الأعمال المُكررة من الإبداع الثقافي والفني، والأعمال الدرامية المُصورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والمكررة بشكل لا يُطاق.
ترى ماذا اعتقد العلماءُ والباحثون في شخصية هذا الآدمي الذي خلقه الله في أحسن تقويم، ليصدروا له الأقفال السهلة، والحلول السريعة، التي تجعله يسلم كل سلطاته البشرية، ومواهبه الإنسانية، وإبداعاته إلى أجهزة آلية لا يمكنها التمييز بين ذكر وأنثى، وجماد وحَيِّ، لكنها أصبحت هي الجهة الرئيسية للكثير من البشر، لطرح الإبداعات المُصممة بذكاء الجهاز الاصطناعي، الذي لا يحمل بداخله قطرة من دم، ولا نفسًا من رُوح، ونحن نحتفلُ بهذه الإنجازات السهلة جدًا، التي لا نحتاجُ إلا لتزويد الجهاز الآلي بمعطياتنا، وأفكارنا، ليصنع لنا منها روايات، وأفلامًا تهز الشاشات الكبيرة والصغيرة، وقيمًا تقليدية من الأمم الأخرى، ومن دياناتهم وعقائدهم الفكرية والاجتماعية. إذا عرفنا موطن المصنع، سنعرف نوع الإبداعات والأفكار التي ستنطلق من الذكاء الاصطناعي، لتنشر في العالم كل سمومها، وحروبها الفكرية، ولتنتشر أسماء وأسماء لا عدد لها وهي تصب علينا إبداعات الأجهزة، وثقافات مُصنِّعيها، وابتلاءاتها الفكرية والاجتماعية.
وقد بدؤوا ينشرون قطعًا صغيرة لمساعدة ضعاف البصر على إدخال الخيط في ثقب الإبرة، لكنهم مهما أضافوا وغيّروا، لن يستطيعوا خلق إصبع بشري يدخل الخيط في الإبرة، ليخلق ما يستُر العالم، ويغطي به عيوبهم وأسرارهم، وأخلاقياتهم المهدورة.

[email protected]

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X