بيني وبينك شَلّالُ الدَّم
كم تُريدون من دمائنا حتّى تتوقّف هذه الحربُ؟! كم تريدون من أشلائنا حتّى تسكت أصواتُ الرّاجِمات؟! كم تريدون من أصواتِ هَلَعِنا ورُعبنا حتّى تخمد أصواتُ الطّائرات والانفِجارات؟!
شلاّلُ الدّمِ المُتفجِّرُ منذُ ثلاثة عشر شهرًا لم يُقنِعكم؟ جُثَث خمسين ألفَ شهيد لم تُشبِعْ نَهَمَكم؟ تدمير تسعة أعشار أبنية غزّة لم يُرضِ سَادِيّتكم؟ أيّ شيءٍ سوف يُوقِف همجيّتكم أيّها المحتلّون القَتَلة الفَجَرة؟!
إنّ مجزرة مستشفى المعمداني في بداية الحرب تلَتْها عشرات المجازر في المستشفيات بعدَها، وإنّ مَسْحَ مُربّعٍ سكنيّ في جباليا تلاه مسحٌ لمئات المربّعات السّكنيّة بعدَها، وهكذا… إنّه نهجُ قتلٍ لا يحيدُ حتّى يقضي على كلّ شيءٍ، أهذه تُسمّى في عُرفكم حربًا؟! أهذه بطولةٌ أنْ تستقووا على الأطفال والنّساء؟! أهذه أخلاقُكم وأخلاقُ جيشكم وأخلاقُ نَسْلكم وأخلاق تاريخكم؟!
كان اسمُها أمل، كانتْ تقفُ في المطبخ لِتُعِدّ الشّاي والخُبز لأكثر من خمسين فردًا من عائلتها ومن أقارِبها الّذين نزحوا إلى بيتهم، لم يكنْ بيتُهم إلاّ شُقّة في عمارة، ولم يكنِ الشّمال آنئذٍ إلاّ صورة الجوع في بشر، وليسَ في الجنوب طعام يُهرَع إليه، ولكنّه الأمل، وإنَّ بيتًا لم تَمَسَّهُ يدُ القتل فيه أملٌ من حياة، وعلى بصيص هذا الأمل تجمّعَ الأقرباءُ في هذه الشُّقّة الصّغيرة بهذا العدد الكثيف.
غَلَى الشّايُ، إنّها لَحَظاتُ سعادةٍ، سوفَ تُسقَى هذه الشّفاه العطشى، وسوفَ تخبو أصواتُ هذه المِعَد الجوعى، حتّى لو كان الشّرابُ شايًا والطّعامُ خبزًا، فإنّه يحمي من الموت الفاغِر فاه في كلّ حين.
غيرَ أنّ الموتَ ليسَ له شكلٌ واحدٌ، الموتُ جوعًا واحدٌ من كثير، هناكَ موتٌ بالفقد، موتٌ بالعيشِ مع صُور الرّاحلين، موتٌ بتذكّر الماضِين باستِدعاء طُيُوفِهم، موتٌ بالحنين إلى لمسةِ يدٍ حانية غُيِّبتْ في الثّرى.
آخر شيءٍ يُمكن أنْ تراه الضّوء الأحمر أو ألسنة النّيران، وآخر شيءٍ يُمكن أنْ تسمعه هو صوتُ أزيز الصّاروخ المُرعب، وإذا كان لكَ دقائقُ أخرى من الحياة مقدورةٌ في علم الغيب، فستسمع آهات الثّكلى، وأنّات الجرحى، وأصوات أخرى يتداخل فيها الدّم بالدّخان والسّخام، فيصطبغ الأحمر بالأسود، فيُنتِج لونًا جديدًا هو لون الموت الوشيك، لا يستأذن ولا يتأخّر.
سقطَ الصّاروخ، وتبعه صاروخان آخَران، خرّتِ البناية، انهدمَ كلّ شيءٍ، اندفنَ تحت الرّكام أكثر من ثلاثمئة شهيد، من عائلة أمل الخمسين لم يخرجْ سِواها، كانتْ محظوظةً؛ لأنّها في لحظة إعداد الشّاي كانتْ أقربَ إلى النّافذة، النّافذة الّتي قذفَ ارتجاجُ الصّاروخ الأوّل بها عَبْرَها، فنجتْ!
كيفَ تعيشُ أمل اليوم؟ بالأمل. لولا الأمل لأصابَها الجنون، ولأصابَ الكثيرين في غَزّة، أكثرُ ما يُوجِعها أنّ أمّها قد رحلتْ دون أنْ ترتشفَ رشفةً أخيرةً من الشّاي، أو تقضم لُقمة واحدةً من الخُبز.