قضايا وأحداث.. عودة ترامب للبيت الأبيض.. الأسباب والتوقعات
لم يكن فوز ترامب في الانتخابات الأمريكية على منافسته كامالا هاريس مُستبعدًا. فعلى الرغم من أن استطلاعات الرأي أظهرت تقاربًا شديدًا بينهما، لكنَّ المراقبين للمشهد عن قرب كانوا متأكدين من حسم ترامب للسباق. لكن المفاجأة الكبرى لجميع الأطراف تمثلت في فوزه بذلك الفارق الكبير، وهو فارق لم يحصل عليه أي رئيس في السباق الانتخابي الأمريكي منذ سنوات طويلة، حيث حصل ترامب على أغلبية واسعة في كلٍّ من مجلس الشيوخ ومجلس النواب، ما يمنحه قوةً داعمةً لإدارته، الأمر الذي قد يؤدي إلى ظهور إدارة ترامب أقوى بكثير، وربما مختلفة عن سابق عهدها.
والحقيقة أنني شخصيًّا لم أكن مُهتمًا كثيرًا بالانتخابات الأمريكية هذه المرة، ولم أولِ الأخبار المُتعلقة بها اهتمامًا كبيرًا. وقد كان ذلك نتيجة اعتقادي بأن السياسة الأمريكية ومواقف الناخبين الأمريكيين صارت منحصرةً بين خِيارين أحلاهما مرٌّ؛ لأنهما تحت سيطرة اللوبيات الصهيونية. وتلك الحالة تحول دون تقديم أي حلولٍ جادةٍ لكثير من الموضوعات الشائكة على المستويين الداخلي والخارجي. ففي أمريكا تأتي الانتخابات وكأنها مِهرجان ديمقراطي يُزيِّف الحالة العامة للمجتمع فيعطي الناس شعورًا زائفًا بأنهم يحكمون البلاد، لكن الواقع هو مجرد اختيار بين خِيارين مُعلَّبين لا خير فيهما، وقد فقدا المصداقية بين أصحاب الضمائر من الأمريكيين، خاصة فيما يتعلق بالمأساة التي تعيشها غزة لأكثر من عام، حيث لم يقدم أيٌّ من المرشحَين حلًّا مُقنِعًا لوقف عملية إبادة الشعب في غزة.
وقد شهدت الجامعات الأمريكية احتجاجات لا مثيل لها منذ أحداث عام 1968، واهتزت المدن الكبرى بالمظاهرات اعتراضًا على السياسات الأمريكية الداعمة لإسرائيل، لكن الحكومة الديمقراطية تمادت في عنادها وواصلت دعمها. كما أن المرشح الرئاسي ترامب لم يكن له أي موقف مختلف، ولم يتردد في استقبال رئيس الحكومة الإسرائيلية، مؤكدًا دعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
كل هذا يؤكد كيف صارت الديمقراطية الأمريكية رهينة اللوبيات الصهيونية التي قد تظهر بعض الاختلافات في بعض السياسات الداخلية أو في عَلاقاتها مع تركيا، لكنها لا تُظهر أي جديَّة فيما يتعلق بالقضية الأساسية في العالم اليوم، وهي مواجهة إسرائيل وسياساتها. ربما كان هذا هو السبب في تراجع الاهتمام بالانتخابات، لكن الشعب الأمريكي مثله مثل باقي الشعوب لا يزال يسعى لاختيار الأفضل بين الخِيارات المتاحة، ولو كان أملًا ضئيلًا. والخروج للتصويت يعبّر عن هذا الأمل وعن أمور أخرى عديدة. وقد استطاع ترامب كسب المزيد من الأصوات في هذه الأجواء رغم زيادة عدد المهاجرين، واللاتينيين، والأمريكيين من أصول إفريقية، والمسلمين الذين يمثلون القاعدة التقليدية للحزب الديمقراطي، وهو ما يعكس انفجارًا من الغضب المتراكم تجاه سياسات الحزب الديمقراطي.
ومن المؤكد أن هذه الحالة قد أفادت ترامب الذي التقط بذكاء موجة الاستياء من سياسات الديمقراطيين العسكرية، سواء في أوكرانيا أو تجاه إسرائيل، ووعد بالابتعاد عن إشعال حروب جديدة، كما أنه لم يشعل أي حرب خلال فترته الرئاسية السابقة، مع تركيزه على تكلفة السياسات الخارجية العسكرية لبلاده، وهو أمر لاقى إعجاب الأمريكيين ورأوه فارقًا كبيرًا في تاريخ أمريكا، رغم أن دعمه لإسرائيل لا يختلف عن موقف منافسيه، فالشعب الأمريكي بات مقتنعًا بأن هذه السياسة الإمبريالية، التي تهدر ضرائبهم في فرض هيمنة أمريكا على العالم، لم تجلب لهم سوى العداء العالمي وتهديد رفاههم وسعادتهم.
ربما ليس بوسعنا أن نتوقعَ من ترامب أو أي سياسي أمريكي آخر حلًّا جذريًّا لقضية غزة أو غيرها من الأزمات العالمية؛ فأمريكا نفسها باتت هي المشكلة. فالحقيقة أن بعض الأزمات الحالية قد تجد طرقها للحل من تلقاء نفسها لو توقفت أمريكا عن الدعم التام لإسرائيل أو رفعت يدها عن إثارة التوترات في أوكرانيا.
ولعل الجانب المقبول في ترامب هو واقعيته وميله للاعتراف بعبثية السياسات الإمبريالية وتكلفتها الباهظة على أمريكا. ومع ذلك، لا ننسى مواقفه الداعمة لإسرائيل، مثل اعترافه بالقدس عاصمةً لها وقَبوله ضم الجولان. لكن لا يغيب عن بالنا موقفه من نتنياهو، الذي سارع بتهنئة بايدن حين فاز في انتخابات 2020 قبل إعلان النتائج النهائية، وهو ما قد يؤثر على سياسات ترامب تجاهه في الفترة القادمة. إلى جانب ما سيحظى به ترامب من دعم مجلسي الشيوخ والنواب، ولن يكون لديه هاجس إعادة الترشح، ما يمنحه فرصةً لاتخاذ قرارات أكثر جرأة وتحديًّا خلال السنوات الأربع القادمة.
كان العالم يمر بفترة من الاضطراب وعدم اليقين، وربما مع ترامب قد يصبح الوضع أكثر غموضًا. لكن هل يمكن أن يكونَ هناك أسوأ مما شهدناه؟ الله أعلم.
أكاديمي وسياسي وكاتب تركي