بيني وبينك.. الصّبرُ دواء
أينَ يفرّ المرءُ مِن قَدَرِ الله؟! تَهبِطُ عليه النّازِلاتُ فلا يملكُ لها دفْعًا، ويجهدُ في أن يتحاشاها فلا يجدُ منها مهربًا، يُحاول ألا يتعرّض للأذى، وألاّ تحيق به الخُطُوب، وذلك في أُمنيته وإنْ لم يكنْ في مَقدُوره، وما ذلك إلا لأن قدر الله لا بُدّ نافذ.
وماذا يملك المرء أمام هذه المصائب التي تهبطُ تَتْرَى؟ إنّه أمام خِيارين: أنْ يجزعَ أو أنْ يصبر. وإنّ الّذين جَزِعوا عبر التّاريخ ربّما نَفَّسُوا عن غضبهم، وأخرجوا الألم من أعماقِهم للحظةٍ، ثُمّ هم باؤوا بالخُسران وسقطوا في طَوَامِي النّدم، ولم يحصلوا من جزعهم إلا على الإثم الذي تكون عاقبتُه أشدَّ وأنكى مِمّا لو أنّهم صبروا تلك اللّحظة الفارقة، اللّحظة التي تنقلُ الصّابر والجازع معًا إلى الضّفّة الأخرى من الحياة.
وفي الصّحيحَين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «شَهِدْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالَ لرجلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الإسلام: هذا من أهل النار، فلمَّا حضرَ القتالَ قاتلَ الرَّجلُ قتالًا شديدًا، فأصابَتْه جِراحه فقيل: يا رسول الله؛ الَّذي قُلتَ له إنَّه مِن أهلِ النّار، فإنَّه قد قاتلَ اليومَ قتالًا شديدًا وقد مات، فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: إلى النّار، قال: فكادَ بعضُ النَّاس أنْ يرتاب، فبينما هُم على ذلك إذْ قيل: إنّه لم يَمُت، ولكنَّ به جِراحًا شديدة، فلمَّا كان من اللَّيلِ لم يَصبرْ على الجِراحِ فَقَتَلَ نفسَه».
وفي هذه القصّة عبرةٌ عظيمة، فإنّه أرادَ أنْ يرتاحَ من جراحه، ولم يصبِرْ عليها فكان جَزَعُه هذا سببًا في دُخُوله النّار، وإنّه كان سيموتُ في ساعتِهِ على أيّة حال، ولكنّ موتَه كان يُمكن أنْ يكونَ بابًا لدخوله إلى الجنّة لو أنّه صبَر، وفي القول السّائر: «إنّما النّصرُ صبرُ ساعة»، وقد كان نصرُهُ مُتحَقِّقًا لو أنّه صبرَ تلك السّاعة على نفسه!
وهكذا في مصيبة الحرب الّتي خطفتِ الأنفس وعمّقتِ الجِراح وزادَتِ الآلام، فإنّ أهلَها لو تركوا أنفُسَهم للجزع لَكان في ذلك هلاكٌ لهم، وهذا معنى أنّ الصبر دَواء، وهذا معنى أنّه مُدِحَ في القرآن بما لم يُمدَح خُلُقٌ بمثله، فجعل الله معيّته مع أهلِه، فقال: «إنّ الله مَعَ الصّابرين»، وجعلَ أجورهم ترجحُ على أيّة أجورٍ في الميزان الّذي يُنصَب يوم القيامة، فقال: «إنّما يُوفَّى الصّابِرون أجرَهم بغيرِ حِساب»، ولَمّا أرادَ أنْ يمدحَ أنبياءَه بأعزّ صفةٍ فيهم، جعلها صِفة الصّبر فقال: «إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ».
والألم لا يدوم، والظُّلمُ لا يدوم، ولا دواء إذا حَلّا غيرَ الصّبر، وما أجملَ ما قال الشّاعر:
إذا ما رَمَاكَ الدّهرُ يومًا بنكبةٍ
فَأَفْرِغْ لها صبرًا، وَوَسِّعْ لها صَدْرَا
فإنَّ تَصارِيفَ الزَّمَانِ عَجِيبَةٌ
فيومًا ترى يُسرًا ويومًا ترى عُسْرَا
AymanOtoom@