سطور شاردة.. الظلم ظلمات
للشاعر العربي الجاهلي طَرَفة بن العبد بيت شعري فصيح، تحدث فيه عن شدة وطأة الظلم وتأثيره في نفوس المظلوم بكلمات موزونة معبرة دقيقة، يقول فيه:
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً
على المرءِ من وَقْعِ الحُسامِ المُهنّد
ولهذا لما جاء الإسلامُ حذَّر من الظلم ومن عقابه الشديد من الله عز وجل الذي يقول في حديثه القدسي: (إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلته بينكم مُحرمًا فلا تظالموا). كما يقول عز من قائل في محكم تنزيله: (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا) الفرقان: 19.
كما حكى لنا المولى عز وجل قصص الأولين التي تبين عاقبة الظالمين وانتصار المظلومين وفَرَحِهم ولو بعد حين، ولعل قصة يوسف الصديق عليه السلام مثال للمظلومين الذين ظُلموا من الأقربين قبل الغرباء، فنُفِي عن والديه ودخل السجن واتُهم في عرضه، لكن يأبى اللهُ إلا أن ينصرَه ولو بعد حين.
إنَّ هذا الاهتمام الذي نلامسه في الإسلام بالظلم والتحذير منه راجع لمعرفة ربِّ هذه الرسالة عز وجل بنفوس البشر وأفعالهم وبمقدار الظلم الذي سيحدث إلى يوم القيامة، يوم يُذاق فيه الظالمون عذابًا كبيرًا، كما وعدهم اللهُ تعالى.
فمسلسل الظلم باق يتمدَّد في كل عصر، بداية بعلماء الرعيل الأول الذين ظلموا من معارضيهم لا لشيء إلا لأنهم قالوا كلمة حق وجهروا بها ولم يخافوا لومة لائم. فهذا إمامنا ابن تيمية شيخ الإسلام، أُدخل السجن بسبب مسائل شرعية، لم يُرِد أن يهادن أو ينافق فيها، ووضعوا دونه الباب، فقال: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ). ثم قال: «ماذا يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري أنَّى سرت فهي معي؛ أنا قتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة وسجني خلوة» . ثم قال أيضًا: «المأسور من أسَرَهُ هواه» . وقد حول السجن إلى مدرسة وإلى جامعة للتأليف، والتسبيح، والعبادة، والذكر، وكان يكتب الرسائل ويرسلها من السجن إلى الآفاق، ويفتي المسلمين، حتى إن فتاويه جاءت في ثلاثين مجلدًا أو أكثر، كُتِبَت في السجن، فأرسل عِلمًا كثيرًا. ومرت الأيام والسنوات والقرون وبقي اسمه يُذكر بين المسلمين يدعون له ليلَ نهار، أما ظالموه فقد طالهم النسيان.
إنه مسلسل مُستمر يظهر فيه أن الظالم يأتيه الله من حيث لا يدري، فدعوة المظلوم مستجابة ولا حجاب بينها وبين الرحمن الرحيم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا تُرَدُ دعوتهم الإمام العادل والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء ويقول بعزتي لأنصُرنَّك ولو بعد حين). وقد ذُكر أن مالكَ بن دينارٍ الزاهدَ العابِدَ حُمَّ أيامًا، ثم وجدَ خِفَّةً فخرجَ لبعضِ حاجته، فمرَّ بعضُ أصحاب الشُّرط بين يديه قومٌ، قال: «فأعجَلوني فاعترضتُ في الطريقِ، فلحِقَني إنسانٌ من أعوانه فقنَّعَني أسواطًا، كانت أشدَّ عليَّ من تلك الحُمَّى. فقلتُ: قطَعَ اللهُ يدَكَ، فلما كان من الغدِ غدوتُ إلى الجسرِ في حاجةٍ لي فتلقَّاني ذلك الرجلُ مقطوعةً يدُهُ يحمِلُها في عُنقِهِ» .
فلا يفرحن الظالمُ بنصره ونشوته الآنية حين يفتك بعباد الله ويبطش بهم، ولا يأسَ المظلومُ ويقنطْ حين تصيبه نبال الظلم، فلا شك أنه بين رمْشة عين وانتباهتها يرجع الله له حقوقه وينتقم له من ظالميه في الدنيا قبل الآخرة.
@Q_south