كتاب الراية

قضايا وأحداث.. العزلة الدولية مصير الغطرسة الإسرائيلية

… وَظُلْمُ الشُّعُوبِ طَرِيقٌ وَعْر.

لا شك أن قرارَ المحكمة الجنائيّة الدوليّة بإصدار مذكرة اعتقالٍ بحق رئيس الكِيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه غالانت، قرار يحمل أهميةً كبيرةً على الساحتين الدوليّة والإقليميّة، رغم أن هناك من لا يراه ذا قيمةٍ حقيقيةٍ على أرض الواقع لصعوبة تنفيذه. لكنه وفي هذه الأثناء ليس مجرد خطوة قانونيّة فقط، بل لا يخلو من تقديم بريق أمل للشعوب المظلومة التي عانت طويلًا من ظلم الاحتلال، إذ يُظهر أن المجتمع الدولي لم يستسلم تمامًا للنفوذ الإسرائيلي الذي يسعى لتدمير الإنسانية كلها.

وتأتي هذه الخطوة في وقت تواصل فيه إسرائيل ارتكاب مجازر يوميّة بحق الفلسطينيين، بدعم أمريكي غير محدود. فمنذ أكثر من ثمانية أشهر مع دخول هذه الجرائم اللاإنسانية شهرها الرابع، ظهرت بعض الأصوات التي شككت في جدوى اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية عقب قَبولها طلب جنوب إفريقيا لملاحقة المسؤولين الإسرائيليين. ومع ذلك، فإن مجرد قَبول المحكمة هذه القضية، كان خطوة في طريق كسر حاجز الصمت الدولي، وفتح الباب أمام إعادة النظر في امتيازات إسرائيل أمام القانون الدولي.

فالكِيان الإسرائيلي الذي لطالما اعتمد على دعمٍ سياسيٍ وأيديولوجيٍ واسعٍ في أوروبا، بدأ اليوم يواجه استياءً مُتزايدًا في الأوساط التي كان يحظى بدعمها لعقودٍ طويلةٍ. فالأصوات المناهضة للتواطؤ الأوروبي مع الجرائم الإسرائيلية بدأت تتعالى، مشيرة إلى أنه لا يمكن الاستمرار في دعم كِيانٍ يتحدى القانون الدولي وينتهك حقوق الإنسان. وبالتالي فإن قرار المحكمة الجنائية الدولية بسحب الحصانة من قادة إسرائيل هو مؤشرٌ واضحٌ على أن العالم بدأ يضيق ذرعًا بسياسة الإفلات من العقاب التي كانت تتمتع بها إسرائيل لعقود.

والأهم من ذلك، أن هذا القرار يأتي رغم الضغوط الهائلة التي مارستها إسرائيل وحليفتها أمريكا. فالضغوط والابتزاز السياسي لم يمنعا المحكمة من إثبات استقلاليتها المؤسسية، وهذا في ذاته تطوّرٌ يُشير إلى أن الإرادة الدولية قد بدأت تتغير ولو ببطء. وقد وجهت المحكمة بإجماع أعضائها اتهامات رسمية لنتنياهو وغالانت بجرائم إنسانية من تجويع الشعب الفلسطيني والقتل المتعمد للمدنيين والصحفيين والكوادر الطبيّة.

هذا التطور يضع دولَ العالم، وفي مقدمتها الدول الأوروبية، أمام اختبارٍ حقيقيٍ. وعقب صدور القرار أعلنت معظم الدول أنها ستلتزم بقرارات المحكمة وستعمل على اعتقال المتهمين فور دخولهما أراضيها. وهذا الالتزام الدولي يعني عمليًا أن إسرائيل أصبحت في عزلةٍ تفقد من خلالها الشرعية الدولية التي كانت تستند إليها لعقودٍ، ولم يبقَ لها شيء سوى همجيتها وغطرستها العسكرية.

ومع هذا التطور في الموقف الدولي تبدو كلمات يحيى السنوار وكأنها نبوءة تتحقق اليوم. فقد قال في أحد خطاباته: «إما أن يقبلَ العدو بإقامة دولةٍ فلسطينيةٍ على الأراضي المحتلة وعاصمتها القدس، أو يدخل في عزلةٍ دوليةٍ تُنهي شرعيته».

هذا التحول يعكس بداية مرحلةٍ جديدةٍ، حيث ستفقد إسرائيل الدعم والامتيازات تحت ستار سردية ضحية المحرقة التي استغلتها لعقودٍ طويلةٍ، فقد انقلبت الرواية تمامًا وانكشف غطاء «الدولة الضحية». وسيُعيد قرار المحكمة الجنائية الدولية صياغة الرواية العالمية حول دولة الاحتلال الإسرائيلي، إذ لم تعد تُعامَل كدولة تستحق التعاطف، بل كدولة ترتكب جرائم ضد الإنسانية وتُحاسب على أفعالها.

وأكثر ما يلفت النظر في هذا القرار هو تداعياته المستقبلية. فالدول التي تدعم إسرائيل، سواء عبر المساعدات المالية أو السياسية، ستواجه اتهامات بالمشاركة في هذه الجرائم. وهذا بدوره سيجعل الدعم الدولي لإسرائيل عبئًا أخلاقيًا وقانونيًا على الدول التي تسعى للحفاظ على سمعتها في المجتمع الدولي.

تَجْرِي الرِّيَاحُ كَمَا تَجْرِي سَفِينَتُنَا .. نَحْنُ الرِّيَاحُ وَنَحْنُ البَحْرُ وَالسّفنُ

وفي النهاية، قرار المحكمة الجنائيّة الدوليّة يُعد صفعةً قويةً لكل من اعتقد أن إسرائيل بمنأى عن المُحاسبة. ورغم أن تنفيذ القرار قد يبدو معقدًا، إلا أنه يمثل بدايةً لمرحلةٍ جديدةٍ أصبح العالم فيها أكثر استعدادًا لمواجهة الجرائم الإسرائيلية بحزمٍ. أما نتنياهو وغالانت، فبات عليهما أن يعيشا تحت حصار قانوني وأخلاقي يُجبرهما على البقاء داخل إسرائيل أو أمريكا، بعيدًا عن أي أرضٍ تطبق القانون الدولي.

الأمر الذي يؤكد للجميع أن العدالة قد تكون بطيئةً، لكنها حتمًا ستتحقق. والأيام القادمة قد تحمل تطورات أكثر جرأة، وقد تضع إسرائيل في مواجهةٍ حقيقيةٍ مع المُجتمع الدولي الذي بدأ يرفع صوته رفضًا لسياسة الظلم والقمع.

 

أكاديمي وسياسي وكاتب تركي

@yaktay

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X