كتاب الراية

كلمات.. وين زمن الطيبين

لا تعدُّ الوالديةُ مدرسةَ الحياة الوحيدة، ففي الحياة مدارسُ متعددة، وبالتأكيد هي الأولى بلا منازع، لكن هل ما زال تأثيرها فعالًا وصامدًا أمام التقلبات الزمنية، والتغيُّرات التحوُّلية، والمدارس الأخرى!

يشعرُ الناسُ بالحنين إلى زمن الطيبين كما يحبُّ البعض أن يطلق هذا الوصف على الحقبة التي سبقت الانتشار التكنولوجي في المجتمع، فما الذي كان يُميز هذه الفترة التي يشهدُ معظم الآباء على سهولة التربية في وقتها؟ فقد امتازت تلك الفترة بالوقت المُنظم والخيارات الواضحة، حيث كانت الحياة أسهل كما يقولون، وذلك لأن الاختيارات كانت محدودة، وشروط الحياة بسيطة وسهلة، وطبيعة الواجبات المُلقاة على كاهل الوالدين أخف وطأة ممَّا نراه اليوم، فانحصر دور الأب بين العمل باكرًا والمنزل والمجالس التي تنتهي بعد صلاة العشاء، بروتين واضح وسلس، بينما الأم تربي الأولاد وتقوم على شؤون المنزل، وفي نهاية اليوم تأوي الأسرة جميعًا إلى مخادعها مبكرًا.

أما اليوم فنَجِد كارثة المشتتات وتعدد البدائل، وحياة الفوضى العارمة، التي أفصحت عن تعدُّد المهام وزيادة حملها، وتواتر إيقاع الحياة، ما أصاب الكثيرَ بالإرهاق المعنوي والمادي، وأسفر عن الكثير من التحديات التي تواجه التربية، فأصبح قرارُ الإنجاب ليس سهلًا، ومحدودًا في معظم الحالات.

وتبرز هنا مشكلة أخرى، نتيجة تلك الضغوطات التي يتحملها الوالدان، وتُعد من المسوغات لظهور هذا الجيل اللا مسؤول في الغالب، وهي ما يعرف بالتساهل الأبوي، الذي ينشأ لعدة أسباب منها: الخوف من فقدان حب الأبناء، حتى لا يظهر الآباء بمظهر القُساة في ظل اللَّغط الواقع بين الحزم والقسوة، وكذلك المطالب المنتشرة ثقافيًا ومجتمعيًا بالتساهل كوسيلة لتجنب التوترات داخل الأسرة، إلى جانب التجارب الشخصية للوالديْن اللذيْن ربما قد يكونان عانيا من تربية صارمة وسلطوية، فيميلان إلى التساهل مع الأبناء لتجنب تكرار التجربة، بالإضافة إلى «التصور الخطأ» عن الحرية، التي يصعب على الآباء تقديرها وبالتالي يفلتُ زمام الأمور من بين أيديهم، ناهيك عن خوف بعض الآباء من الصِّدام مع أبنائهم، وهذا يؤدي إلى مزيد من تنازلات في غير محلها، إلى جانب الضغوط الاجتماعية التي يستسلم لها معظم الآباء، في اتباع أنماط من التربية يعتبر أكثر تسامحًا.

ولعل من أهم الأسباب التي أدت إلى هذا التغاضي، تغيرُ اهتمامات الآباء، وتسخير أغلب أوقاتهم لرغباتهم الخاصة، وقلة الصبر على «تربية الأبناء» التي تحتاجُ إلى الكثير من المجهود والضبط الانفعالي، وبالتالي فإن أسلم وسيلة إلى ذلك هو التراخي لتجنب الجدال وصداع التربية، وتوفير المزيد من وقتهم الخاص.

إنَّ الافتقارَ إلى المعرفة التربوية، تلك المبنية على المبادئ الدينية والأخلاقية الغائبة عن المشهد، والتمسك بفهمٍ خَطَأ عن التربية الحديثة، واستخدامها كبديل عن التربية الحازمة والمعتدلة، وغياب الهدف والصورة الشاملة، أسهمت في ظهور جيل لا يقدِّر الالتزام، ولا يحبذ المسؤولية، متمرد، قليل الثقة بالنفس، أناني يركز على متطلباته وكيفية تحقيقها، لا يقدر مشاعر الآخرين واحتياجاتهم، إلى جانب صعوبة التكيف مع المجتمع والالتزام بالقواعد المُجتمعية، وبالتالي ظهور العديد من المُشكلات السلوكية والنفسية، وضعف العلاقات الأسرية الناتج عن التساهل المُفرط الذي يخلق فجوة انعزالية بين الآباء والأبناء نتيجة غياب القواعد التي تربط الأبناء بذويهم، ومع مرور الوقت تضعف قدرة الوالدين على التأثير في أبنائهم، والقدرة على فرض توجيهاتهم أو حتى في إقامة علاقة قائمة على الاحترام والتقدير.

إنَّ التوازن بين التساهل والانضباط هو مِفتاح التربية الناجحة، فالأبناء بحاجة إلى مزيد من الحب والدعم والتوجيه، مع وجود حدود واضحة ومفهومة.

دُمتُم بوُدّ.

 

[email protected]

@shaika_2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X