كتاب الراية

بيني وبينك.. في مَهَبِّ الرِّيح

عامٌ جديدٌ يحلّ على الغَزّيّين في مهبّ الرّيح، لم يكتفِ الجُوعُ والمرضُ والموتُ بأنْ يكونوا رفيقًا لهم في كلّ لحظةٍ حتّى شارَكتِ الرّيح في لونٍ جديدٍ من المأساة؛ تقتلعُ الخِيام، وتُطيّر الثّيابَ، وتنكفِئ لشِدّتها القُدورُ، ويختلطُ ما تبقّى فيها من طعامٍ بالطّين، وتعومُ الأكواب مسافرةً في السّيل، ويمتزجُ الدَّمُ بالوحل.

ثُمّ جاءَ المطرُ فصَبّ عليهم سوطَ عذابٍ بعدَ أنْ كانَ المطرُ رحمةً، فأغرقَهم، وأغرقَ خيامَهم، وجعل الصّقيع يدخل بين الجِلد والعَظم حتّى جعل واحِدًا منهم يصيح في مطرٍ كان عند غيره خيرًا ورحمةً: «يا ربَّ المطرِ أوقفْ عنّا هذه الرّحمة الّتي شَتّتَتْنا في الصّقيع، وزادتْ بلوانا بلايا وخَطْبَنا خُطُوبًا!» .

يطلبُ الغَزِّيُّ من طفله الرضيع الّذي لم يتجاوز عمره ثلاثةَ أسابيع أن يُسامحه، ويهتفُ عبرَ صَرَخاتِه الملكومة ودموعه الّتي لا يستطيعُ دَفْعَها: «سامِحْني يا بُنَيّ، كنتُ أريدُ لكَ حياةً غير الحياة الّتي أرادَها لكَ الاحتِلال، كنتُ أريدُ لِعِظامِكَ الطّريّة أنْ تنتعشَ بالدّفء، ولِجِلْدِكَ الرّقيق ألاّ يتقشّر من الصّقيع، أعترفُ لكَ بِعَجْزي، ولا أملكُ حتّى قماشًا أو سُترةً زائدةً عن حاجةِ مَنْ تبقّى من عائلتنا من أجل أنْ أجعلَها لكَ كفنًا، وها أنا أُواريكَ الثّرى كومةً من العِظام، سامِحْني يا بُنَيّ، إنّ قهر الرّجال قاسٍ جِدًّا، وأقسى منه قَهْرُ الآباء الّذين تنفلتُ من بينِ أيديهم أرواحُ أطفالِهم الصّغار، وتنطفِئ في عتمة البردِ والحُزنِ ذُبالتُهم، هل تُسامحني حَقًّا؟» . ثُمّ يحتضنُ طفلَه بذراعَيه وصَدْره وهو في القبر كأنّما يُريدُ أنْ يبعثَ في جسده الميّت شيئًا من الدّفء يتسرّب من قلبِه ودمِه إليه، ثُمّ ينهار بالبُكاء حتّى يرفعه الآخرون ويُصبّرونه، ويُهيلون ما توفّر من التّراب لِمُواراة الجسد الذّبيح!

يتنقّل مَنْ تبقّى من الأطفال على قَيْدِ الحياة بين الخِيَم الّتي تنسدلُ أطرافُها المُثقلة بالماء على الأرض العاجّة بالوحل، بأقدامٍ عارية، هم الآخَرون لا يملكون حذاءً يقي تلك الأقدام شيئًا من البرد الّذي يحزّ العظم، يرفعون بناطيلهم حتّى لا تتبلّل بالماء فيكشفون عن سيقانٍ رفيعةٍ يكادُ لا يُغطّي عِظامَها شيءٌ، فينخر فيها البرد من جديدٍ، فأين يهربون؟! وكيفَ يتّقون موجة الصّقيع القاتِلة؟!

يتجمّدون حتّى البرد في بِرَكٍ من الماء والعالَم لا يرى. يموتون في كلّ لحظة والعالَم أعمى، تشقّ صرَخَاتُهم الفَضاء وتصعدُ إلى ربّ السّماء والعالَم أصمّ أطرش؛ كأنّ الّذين يَموتون حيوانات وليسوا بشرًا. يتشدّق العالَم الّذي يُسمّي نفسَه حُرًّا بالمواثيق الأمميّة وبحقوق الإنسان في غُرفٍ مُغلَقة، وفي فنادقَ فَخْمة، ويُدبّجون الخطابات والنّصوص في خطاباتهم بعيدًا عن مشهدٍ تدمَى له القلوب، وتتفطّر له الأفئدة في غزّة الذّبيحة.. أيّها العالَم الحُرّ نحنُ هنا، هنا في بُقعةٍ منسيّة مكسورةٍ يتيمة وحيدةٍ حزينةٍ بائسة.. أيّها العالَم الّذي له ألفُ عينٍ وعينٍ: ألا ترانا؟!

 

AymanOtoom@

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق
X