في هذه اللحظة هناك فقط أحد الطريقين
بقلم/ د. علي محمد فخرو:
تستطيع الجماعات والأفراد أن يعترضوا أو يحتجّوا أو يغضبوا ويتوعّدوا، أو يتوسّلوا ويذرفوا الدموع من خلال كل وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك من أجل مواجهة كوارث الوطن العربي المُتراكمة دون توقّف أو محاسبة مسبّبها، لكنهم لن يفعلوا أكثر من ممارسة الهذْر الكلامي والتنفيس عن الألم النفسي العابر المؤقّت.
وستصدق عليهم مقولة المسؤولين والمهيمنين الشهيرة: «دعهم يقولون ما يريدون، أما نحن فإننا سنفعل ما يحلو لنا ونريد» .
يصدُق ذلك على الثنائي المهيمن المجرم الاستعماري- الإسرائيلي وهو يمحو شيئًا فشيئًا مجتمعَ غزة من الوجود، وهو ينتقل ليتحكم بكل مظاهر الحياة في طول وعرض لبنان، وهو يخطط خطوة خطوة وبنجاح للسيطرة على كل شبر وثروة ومستقبل سوريا.
ويستطيع الساسة المتفيقهون وبقايا المناضلين القدامى المتعبين والمثقفون الحالمون بالجلوس أمام وسائل التلفزة والإذاعة وبقايا الصحف المهجورة لينشروا تعابير التفاؤل والأمل وقصص نضالات الماضي التحريرية ليؤكدوا أن الأمة العربية ستنتصر كما انتصرت في الماضي، ولكنهم ينسَون أن كل انتصارات الماضي المبهرة قد حققتها إرادات الفعل المحارب المُضحي المنظّم الشعبي وليس أقاويل وثرثرات وسائل التواصل الاجتماعي ومنصّات الإعلام التي يجلسون أمامها.
يا ليت هؤلاء يقرؤون ما قاله عالم الرياضيات البولندى جاكوب برونوسكي: «العالم لا يمكن إمساكه إلا بالفعل، وليس بالتأمّل.. فالحّد القاطع للعقل هي اليد» . أو يتمعّنوا فيما قاله الأمريكي جويل باركر: «الرؤى بدون فعل ليست إلا أحلام، والفعل بدون رؤى مضيعة للوقت، ما يغيّر العالم هما الاثنان، الرؤى مشفوعة بالفعل» .
وعندما واجهتْ إنجلترا الهجومَ الألماني في بداية الحرب العالمية الثانية هتف زعيمُها تشرشل بصوت عال «اليوم هو الفعل» ولم يواجه الوضع الحرج بالقول «اليوم هو التفاؤل والثقة بالنفس» . فالتفاؤل هو نتيجة الفعل وليس مسبّبه، والمتفائل، كما يقول المَثل، هو الإنسان قليل الخبرة.
وقد عَرفَ من بَنَوْا الأحزابَ القومية العربية العابرة للحدود في أوائل تكوينها كل ذلك، فشدّدوا على الأهمية القصوى للفعل النضالي الشعبي في الحياة السياسية العربية. ولعلنا نتعلم
من الأفذاذ من قادتها التاريخيين ونتجه نحو بناء أدوات الفعل الشعبي الوحدوي العربي من أجل تحويل الأفكار والرؤى والآمال إلى تغييرات جذرية كبرى في الواقع العربي المشترك.
في هذه اللحظة، وأمام أهوال الحاضر ومآسي الماضي السياسي الوحدوي النهضوي القريب، ليس أمام المهمومين الملتزمين إلا سلوك أحد الطريقين: إما بناء أحزاب أو حركات قومية وحدوية شعبية جديدة مكان تلك التي انهارت أو ضعفت، إذا لم تستطع الأخيرة إعادة بناء نفسها وإجراء تجديدات فكرية وتنظيمية تنقذها وتعيد الثقة فيها عند الجماهير، وإما بناء جبهة شعبية، مكونة من الأحزاب والنقابات والجمعيات المهنية والحقوقية والاتحادات العربية الراغبة، تهدف إلى قيام وجود للمجتمع المدني العربي في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية العربية، تعوض غياب العمل العربي الرسمي المُشترك المأزوم، والمُنقسم على نفسه المتراجع أمام الهجمة الإسرائيلية- الاستعمارية المُتعاظمة الأخيرة.
في كلتا الحالتين أصبحت كرة الإنقاذ في ملعب المجتمع المدني العربي الذي يجب أن تُبادر طلائعه، بإرادة متجددة وروح نضالية محاربة، إلى إيقاف التراجع العربي الحالي المُفجع.
سيحتاجُ السائرون في أحد الطريقين إلى طليعة مبادرة قادرة على أن تقنع الجماهير بأن لديها الأفكار والوسائل والعزائم لوضع استراتيجية عمل جديدة فاعلة قادرة على قيادتها نحو استرجاع الزّخم النضالي الشعبي الوحدوي العروبي الذي كان ملء العين والبصر ورمز الفخار والاعتزاز منذ بضعة عقود فقط.
يقول شكسبير في إحدى تمثيلياته: عندما يملأ صخب الحرب آذاننا، عند ذاك فقط سنُمارس أفعال النّمور، يا شباب وشابات العرب لتمتلئ آذانكم بذلك الصخب، ولا غير ذلك الصخب.