قضايا وأحداث.. الشعب السوري يصنع التاريخ

ولا بُدَّ لِلَّيْلِ أنْ يَنْجَلِي ولا بُدَّ للقيْدِ أَنْ يَنْكَسِر
بعد 61 عامًا من القهر والفساد، انتهى عهد النظام السوري الاستبدادي الذي حكم البلاد بقبضة من حديد وظفها في ارتكاب أبشع الجرائم والمجازر ضد شعبه. واليوم بعد أن عزم الشعب السوري على تقرير مصيره بنفسه؛ ليضيء صفحة جديدة في تاريخه بعد عقود من القهر والاضطهاد، نرى الأنظمة والدول التي لم تقطع علاقاتها يومًا مع نظام الأسد، وتجاهلت كل المجازر والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها نظام الأسد على مدار أكثر من نصف قرن، تسارع لتقديم النصائح والإرشادات للحكومة الجديدة.
رأت الشعوب زيارة وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا ومسؤولين أمريكيين لسوريا في مشاهد مشينة بروتوكوليًّا، وأول شيء وقعت عليه أعينهم المريضة هو حقوق الأقليات، وكأنها مشكلة جديدة وضرورة ظهرت مع الحكومة الجديدة التي لم تكمل شهرًا واحدًا.
ألا يبدو الأمر مثيرًا للسخرية؟! فالجميع يعلم ما عانته سوريا على مدار عقود طويلة من سيطرة نظام أقلية على مقدرات البلاد دون مراعاة لتطلعات الشعب الذي يمثل الأغلبية. وهذا الواقع المرير لم يبدأ مع حكم عائلة الأسد، بل يعود هذا النظام إلى عهد الانتداب الفرنسي على سوريا، حيث تم هيكلة مؤسسات الدولة لتمنح امتيازات استثنائية لفئة صغيرة أقلية على حساب الشعب السوري كله. ومع انقلاب حافظ الأسد في سبعينيات القرن الماضي، تحول هذا النظام إلى ديكتاتورية تعتمد على الطائفة العلوية وتهميش كل الأصوات الأخرى، رغم محاولات هزلية لإظهار التنوع في التشكيلات الحكومية.
والحقيقة أن الأسد ونظامه كان لا يُظهِر سوى صورة عبثية من التعددية الشكلية، حيث كان يُعيّن أفرادًا من طوائف أخرى في مناصب رمزية لإيهام الشعب بوجود تمثيل حقيقي. لكن الواقع كان مغايرًا تمامًا؛ إذ حكمت البلاد دائرة ضيقة لا تتجاوز عائلة الأسد، والتي تعاملت مع سوريا باعتبارها ملكية خاصة، وبالتالي أدى ذلك إلى تدهور اقتصادي واجتماعي غير مسبوق، إلى جانب عقود من القمع والتهجير والتعذيب على أيدي هذه الأقلية.
أُجبر ملايين السوريين على الهجرة خارج البلاد أو النزوح داخليًّا بسبب القصف والدمار، وكانت السجون السورية ممتلئة بالمعتقلين السياسيين، وصارت مراكز التعذيب علامة على هذا النظام الوحشي الذي لم يتورع عن ارتكاب أفظع الانتهاكات الإنسانية في مدن كثيرة مثل تَدْمُر وسجن صيدنايا. وحوَّل سوريا إلى مساحات واسعة من المقابر الجماعية، ومسرح للجرائم التي هزت ضمير العالم. ومع ذلك، كانت الدول الغربية ومدعو حقوق الإنسان، مثل ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة، تتجاهل هذه الانتهاكات، وتتعامل مع النظام وكأن شيئًا لم يكن.
موازين غربية مهترئة…
وبعد كل هذه الحقائق التي لا تخفَى، تأتي الدول الغربية التي طالما غضت الطرف عن معاناة السوريين تحت وطأة نظام الديكتاتورية الأقلية، لتقديم النصائح للحكومة السورية الجديدة بشأن حقوق الأقليات، ومطالبة الحكومة الجديدة بضمان حقوق الأقليات وكأن هذه هي المشكلة الأكثر إلحاحًا والتحدي الوحيد الذي تواجهه البلاد الآن!
لكن السؤال الأكثر إلحاحًا الذي يطرح نفسه هو: ألم يكن النظام الذي حكم سوريا لعقود هو نظام أقلية؟ ألم يمنح هذه الأقلية امتيازات ضخمة على حساب الأغلبية؟ هل كانت الأقلية الحاكمة هي التي تعاني من انتهاك حقوقها؟! الحقيقة أن المشكلة لم تكن في حرمان الأقليات من حقوقها، بل في تمتعها بامتيازات استثنائية جعلتها تحكم البلاد لأكثر من نصف قرن كأقلية مستبدة.
والمفارقة الكبرى أن أفرادًا من الطائفة النصيرية التي يُفترض أن النظام كان يمثلها، كانوا من أوائل من تخلَّى عنه عند سقوطه، في إشارة واضحة عن المنهج العقيم لنظام الأسد الذي استخدم هذه الطائفة أداةً لحماية مصالحه، بينما ترك أفرادها يعيشون في فقر وإهمال. وهذا يأخذنا إلى بداية حكم حافظ الأسد الذي جلب آلاف النصيريين من المناطق الريفية في اللاذقية إلى دمشق، ووعدهم بالازدهار في حال دعموا نظامه، لكن هذه الوعود لم تتحقق أبدًا. وعاش هؤلاء المخدوعون دون أن يحصلوا على أي منافع حقيقية من حكم النظام الذي كانوا يُجبَرون على الدفاع عنه.
واليوم، ومع تشكيل حكومة جديدة تمثل إرادة الأغلبية، تتجه سوريا نحو مستقبل أكثر عدلًا. حيث تدرك القيادة الجديدة أن العدل هو حجر الزاوية لبناء سوريا جديدة. فلا مجال للانتقام أو التمييز.
وقد صرح قادة الثورة، وعلى رأسهم أحمد الشرع، أن أي شخص تورط في جرائم ضد الإنسانية سيُحاسَب، بغض النظر عن انتمائه الطائفي، ولا مجال لظلم أحد.
فسوريا اليوم ليست فقط بلدًا ينهض من تحت ركام الظلم، بل مثالٌ لقدرة الشعوب على استعادة حقوقها مهما طال الزمن، فالإرادة الجماعية أقوى من أي استبداد مهما طال.
أكاديمي وسياسي وكاتب تركي
@yaktay