الخَصِيصة الخامسة أنّها لغةٌ شاعرةٌ، كما قال عنها العقّاد في كتابه الذي سَمّاه بهذا الاسم، وما معنى ذلك، معناه أنّها: «لغةٌ يكثُر فيها الشِّعر والشُّعراء، وأنّها لغةٌ مقبولةٌ في السمع، يستريحُ إليها السّامع كما يستريح إلى النظام المُرتَّل والكَلِم الموزون، كما يقصدون بها أنّها لغةٌ يتلاقى فيها تعبير الحقيقة والمجاز على نحوٍ لا يعهد له نظير في سائرِ اللُّغات، أو انفراد اللغة العربيّة بالعَروض».
لُغةٌ تُعبّر عن مشاعرك بأدق التّفاصيل، تُسعِفك كما لا تُسعفكَ لغة سواها، وتجودُ عليك بالمقال المناسب في المقام المُناسب، وما أعزَّ منزلَ الحُبّ فيها! إنّه معنى واحد يسوق إليه عشرات المراتب من الألفاظ ومئات التعابير من المفردات، فأولى مراتب الحُبّ الهوى. ثُمّ العَلاقة وهي الحُبّ اللاّزم للقلب، ثُمّ الكَلَف وهو شِدَّة الحب. ثم العشْقُ وهو اسم لما فَضَلَ عن المقدار الذي اسمه الحب، وجعله المتنبّي سببًا للموت:
وَعَذَلْتُ أَهلَ العِشقِ حَتّى ذُقتُهُ فَعَجِبْتُ كَيفَ يَمُوتُ مَن لا يَعشَقُ؟!
ثُمّ الشَّعَفُ وهو إحراقُ الحُبِّ القلبَ مع لذّةٍ يجدها، كما في قراءة: «قد شَعَفَها حُبًّا». وكذلك اللَّوْعَة واللاَّعِجُ وهو الهوى المُحرِق. ثم الشَّغَفُ وهو أن يبلغ الحب شَغاف القلب، كما قال المتنبّي:
أَبْكَاكَ أَنَّكَ بَعْضُ مَنْ شَغَفُوا لَمْ أَبْكِ أَنِّيَ بَعْضُ مَنْ قَتَلُوا
ثُمَّ الجَوَى وهو الهوى الباطن، كما قال أبو الطّيّب:
ما لَنَا كُلُّنا جَوٍ يا رَسُولُ أنا أهوى وقلبُكَ المتبولُ
ثُمَّ التَّيْمُ وهو أن يستعبدَه الحب ومنه سمي تَيْمُ الله أي عَبْد الله، ومنه رَجُلٌ مُتَيم. ثم التَّبْلُ وهو أن يُسْقِمَهُ الهوى، ومنه رجل مَتْبُول. ثم التّدْلِيهُ وهو ذَهاب العقل من الهوى ومنه رجل مُدَلَّهٌ. ثم الهُيُومُ وهو أن يذهب على وجهه لغلبة الهوى عليه، ومنه رجل هَائِم؛ قال تعالى: «فشارِبون شُربَ الهِيم». وفيه الخلابة والخِلم، والشجن، والصبابة، والصبوة، والغَرَام، «ومَنْ يعشقْ يَلَذُّ له الغَرامُ» كما قال المتنبّي، وفيه الغَمْرة والمعمود، والمَخبول، والمَفتون، والمجنون، وعُدّ حتّى لا تجدَ لذلك مزيدًا.
والخصيصة السّادسة أنّها لغة التكثيف والإشارة والإحالة والكناية والمَجاز، بِما لا يُمكن أنْ تجده في أيّة لغةٍ من الذّيوع حتّى قالوا إنّ العربيّة كُلَّها مَجاز، وهي إلى ذلك لغة الحذف والإضافة، ولغة التقديم والتأخير، وما لا تقوله يدلّ عليه ما قالتْه، وما لا تقوله أحيانًا أكثر مِمّا تقوله، ففي قول كُثيّر:
فقلتُ لها يا عَزُّ كُلّ مُصيبةٍ إذا وُطّنِتْ يومًا لها النّفسُ ذَلَّتِ
والمحذوف المُقدّر: (إلاّ مُصيبتك)، فإنّها مهما وُطّنت لها النّفس لم تذلّ.
هذا وما أخذْنا من البحر إلا بمقدار المِخْيط إذا أُدخلَ فيه، وما هذا إلا غيضٌ من فيض، ونزرٌ لا يدلّ على المُراد إلا كما يدلّ الشّعاع على الشّمس. وفي النّفس حاجاتٌ لا تنقضي.
انتهى..

AymanOtoom@

[email protected]