مفهوم الفتنة سياسيًا نتاج العقلية العربية الإسلامية بامتياز. وهو مفهوم يدل على قصور سياسي تاريخي عن بلوغ مرحلة الرشد والنضج التي مرت بها مجتمعات أخرى في عالم اليوم. لماذا نحن فقط دائمًا في خوف من اشتعال الفتنة؟
لماذا مجتمعاتنا العربية والإسلامية هي فقط مسرح لمثل هذا الاشتعال؟
وأولًا وقبل كل شيء ما هي الفتنة أصلًا؟ وما هي مكوناتها؟ لا أجد تفسيرًا لها أنها منطقة محظورة عجزنا أو عجزت أطراف الأمة عن مقاربتها بشكل يدخلها ضمن أحد مستويات العقل الجمعي للأمة، فجلست هذه الأطراف على حدود هذه المنطقة خوفًا من السقوط فيها لأنها لا تزال في مرحلة اللا معقول واللا متفاهم حوله، وتظل الأمور هكذا حتي يحصل حدث مأساوي معين يدفع أحد الأطراف للسقوط في المنطقة لتشتعل الفتنة وتأتي على الأخضر واليابس. أما مكونات «الفتنة» فهي تتراوح بين الأبعاد الدينية أو الطائفية أو القبلية.
وهذه في اعتقادي مكونات ما قبل المجتمع المدني، وهذا يفسر عدم وجود مثل هذا المفهوم في البلدان المتمدنة والمتطورة، هل يمكن الحديث عن «فتنة» بهذا المفهوم في دول أوروبا الغربية المتقدمة؟ أو في الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا؟.
عرف تاريخنا عبر عقوده الطويلة منذ فجر الإسلام فتنًا عديدة لغياب السياسة كعامل يتوسط بين الخلاف، وكذلك صلابة الفهم الديني وبروز العامل العرقي الإثني فلا تلبث الأمة إلا أن تجد نفسها في أتون حرب طائلة انجرت إليها جرًا دونما استعداد أو تهيب. من هنا حتى تاريخنا الحديث جدًا مرّ ولا يزال يمرّ بمثل هذه الفتن التي يجب إخراجها من إطارها الملتبس بالدين وإدخالها ضمن عملية القصور السياسي والمؤسساتي للمجتمع. فاجتياح صدام للكويت أقام فتنة، والحرب اللبنانية الأهلية أيضًا فتنة لسقوط البعض في هذه الفجوة أو المنطقة المحظورة، بمعنى أن مثل هذه الأحداث فجّرت مكونات الأمة وجعلتها في مواجهة مع نفسها وهي التي حاولت طويلًا نسيانها أو تناسيها وليس حلها. هذا هو القصور التاريخي. الآن للخروج من هذا المأزق الذي تكرر وسيتكرر عبر التاريخ لا بد من الإشارة إلى بعض المنافذ المحتملة.
أولًا: الاعتراف بنسبية المعرفة لدى جميع الأطراف لأن ادعاء الحقيقة والمعرفة التامة تعني الصدام مع الآخر لا محالة مهما طالت المدة وامتد الدهر.
ثانيًا: إقامة الدساتير المدنية القائمة على المساواة والمواطنة لأخذ المجتمع من سباته التاريخي ومرجعياته بجميع أشكالها.
ثالثًا: إخراج مفهوم الفتنة من الوعي العربي ومن النسق الديني لأن استمرار هذا الوعي يعني توقع وجودها وقيامها لا شعوريًا طال الزمن أو قصر، ففتنة «الرجل في دينه» مثلًا أو «فتنة المسيح الدجال» مختلفة تمامًا عما يقع ضمن هذا المفهوم حاليًا.
رابعًا: تفكيك مفهوم الفتنة وإعادته إلى جزئياته وهي في الحقيقة خلافات طائفية كانت أم دينية أم قبلية يمكن التفاهم حولها ووضع الآليات الدستورية والقوانين المدنية للتعامل معها.
خامسًا: دمقرطة السلطة العربية والإسلامية وتعقيد اتخاذ القرارات المصيرية لكي لا تتكرر «فتن» بمستوى غزو دولة لدولة أخرى.
أعتقد أن مثل هذه الإجراءات سوف تخرج هذا المفهوم «الفتنة» من مكانته الرهيبة في زوايا الوعي العربي وتعيده إلى مكانته الحقيقية والملموسة، كأن يفتن الشاب الوسيم قلوب النساء أو أن تفتن المرأة الجميلة الرجال، وهما أمران لا يلامس خطرهما أطراف الأمة بل ويمكن التحصن منهما بالأخلاق والتدين أو حتى بالزواج. الوعي بأن الفتنة قدر للأمة حمّلها، -أي الأمة-، ما لا تحتمل وجعلها تنقل داءها في ردائها.

[email protected]
@A_AzizAlkhater