دعوني أنطلق من حالةٍ وجوديةٍ عشتها وأعيشها كمواطن خليجي وعربي ومُسلم، وهي اتساع الفجوة بين الواقع الذي نعيشه والجهاز المفاهيمي الذي نمتلكه كأفرادٍ في المُجتمع، بمعنى أن هناك فجوةً بين الواقع الذي نعايشه وبين ما نفكّر فيه، انطلاقًا من عدم ملاءمة المفاهيم أو ال tools، التي نستخدمها لفَهم هذا الواقع وفك شفرته. في اعتقادي، بدأ الإنسان تقليديًا في الخليج، بمعنى أنه كان هناك تطابق بين واقعه الهادئ وما ينتجه هذا الواقع من مفاهيم لأسباب كثيرة، منها نمط العَلاقات الأفقي التشابكي بين أفراد المُجتمع، ومع مرور الوقت وبفعل التقنية والتطوّر العلمي والحداثة، سمّها ما شئت، أصبح إنسانًا استهلاكيًا، ومع مزيدٍ من التطور المادي والتقني في جميع المجالات أصبح هو ذاته موضوعًا للاستهلاك، لينتهي به الأمر اليوم ليصبح إنسانًا مُستباحًا. ازدادت الفجوة اتساعًا بين واقعه وما يمتلكه من مفاهيم تتماشى مع هذه التغيرات التي أحدثت هذه الفجوة بشكل جعل من الصعب التعامل مع واقعه بشكل متناغم، ثمة اغتراب بين واقعه الاجتماعي وجهازه المفاهيمي الذي درج على استخدامه في السابق ليفهم واقعه أيًا كان مصدر هذا الجهاز المفاهيمي، ونعطي أمثلة:

مفهوم الفتنة الذي أخذ في الاتساع بشكل عطل مساحةً كبيرةً من تفكير المجتمع، وكلما اقتربنا من مناقشة موضوع أو مسألة ما جاء التحذير، ستحدث فتنة، والأفضل الابتعاد عنه وتأجيله أو ترحيله من جيل إلى آخر.

مفهوم «الهُوية» وكيف تحوّل إلى هوسٍ شبه يومي وجُرح نرجسي بعد أن كان أمرًا عاديًا لا يثير قلق المجتمع.

مفهوم السيادة الذي تربينا عليه أين هو الآن؟

مفهوم الاستقلال.. الذي قدمت الشعوب التضحيات لكي تناله كيف يبدو الآن؟

مفهوم النصر والهزيمة: هل انتصرنا أم انهزمنا.. من يجيب؟

مفهوم الديمقراطية التي كانت ديدن كتاباتنا وتطلعات شعوبنا، أصبحت على مستوى العالم دون الطموح حتى في أعتى مراكزها التاريخيّة.

مفهوم الوطنية، مفهوم الخيانة.. ناهيك عن المفاهيم والاصطلاحات المستوردة التي نحن في اشتباكٍ دائمٍ معها كالعلمانية والليبرالية.

ابتعد الواقع كثيرًا، بينما استمر الفكر ثابتًا دون وسيط معرفي مفاهيمي يمكننا معه فَهم هذا الواقع المُتغير بأدوات من إنتاجه ومن صميم طبيعته. بل ما هو الواقع أصلًا؟ هل هو كِيان موضوعي ثابت أم هو بناءٌ اجتماعي يتشكل من خلال حوار المجتمع مع ذاته؟

ما هي الحقيقة ؟ هل هي موضوعية مستقلة عن التجرِبة الإنسانية؟ هذه أسئلة جوهرية لمقاربة هذه الإشكالية، هناك أزمة علوم اجتماعية نعيشها كمجتمعات رغم كل ما لدينا من جامعات ومعاهد وكليات لأسباب عديدة، منها أن هذه العلوم أفقية الطابع، بينما الحَرَاك الاجتماعي في هذه المجتمعات يرتكز على العَلاقات الرأسية، ومنها كذلك عدم الإيمان بهذه العلوم رغم التغيرات السريعة التي تمر بها مجتمعاتنا. أدموند هوسرل الفيلسوف الألماني الشهير في كتابه «أزمة العلوم الأوروبية» الذي نُشر عام 1936 ثم أُعيد نشره من قِبل تلاميذه كاملًا عام 1954، حاول إيجاد طريقة لجعل العلوم الاجتماعية أو الفلسفة بالذات منهجًا دقيقًا كالمناهج العلمية، أوجد ما سمي اليوم بالظاهراتية، وهو منهج يحيّد كل أفق تاريخي أو أيديولوجي أو حكم مسبق لدراسة الظواهر الاجتماعية، لتبدو كما تتجلى في الوعي حين يقصدها دون أي تأثيرات أخرى ودون إصدار أحكام عليها، اهتم بدراسة الوعي وتنقيته، جاء بعده تلميذه هايدغر لينتقل بالفكرة من الوعي إلى الواقع من خلال نموذج «الدازاين» وتعني الكينونة الملقاة هناك، ويعني بها الكائن الإنساني في العالم، وعليه أن يتدبر شؤونه ويخلق حقائقه وسط الأشياء ليصنع وجوده الأصيل، فمن أصالة الوجود سد هذه الثغرة التي نعاني منها كمجتمعات عربية، نعيش واقعًا لا نملك مفاتيحه ولا أدوات فك شفرته. الغرب منذ بداية القرن الماضي وهو يتفلسف لُغويًا ليحل هذا الإشكال فأوجد ما أمكن تسميته ب «إنسان التأويل»، ليس فقط في نصوصه الدينية والتاريخيه، بل وجوديًا، من خلال إيجاد صيغة واقعية للتعامل البراجماتي مع تعقد الحياة وموقف الإنسان مع مستجداتها.

السؤال الآن: ما دور جامعاتنا ومعاهدنا ومؤسساتنا في المساهمة في سد هذه الفجوة التي أراها أخطر ما يواجه مجتمعاتنا من تغيرات اجتماعية، حيث أوصلتنا إلى هذه الحالة من «اللامعيارية» التي نعيشها اليوم.

أين هو المجتمع المدني في عالمنا العربي اليوم؟ وما هو دوره؟

ما هو واقع تدريس علم الاجتماع في مجتمعاتنا؟ كأن خريج علم الاجتماع مكان حيرة المجتمع وفائض عن التوظيف؟

ما هو واقع الفلسفة وهي ما يصنع أو ينحت المفاهيم وهذه وظيفتها الرئيسية كما يقول «دولوز»؟

ما هو واقع تدريس التاريخ في مجتمعاتنا، حيث يذبح الحاضر باسم الماضي كل يوم دون استشراف للمستقبل ودراسة الحوليات وتاريخ الذهنيات؟.التاريخ ليس مجرد أحداث وإنما هو روح وحالات نفسية.

أعتقد أننا بحاجة ماسة إلى ما أسميه «الواقعية الجماعية أو المجتمعية»، حيث لا بد أن ننظر إلى الواقع على أنه نتاج تفاهمات وثقافة جماعات، كما أن الحقيقة ليست منفصلةً عن الواقع فهي دائمًا مجال للتأويل والبناء المستمر حتى يمكن أن نخرج بحلول واقعية ومفاهيم مشتركة حولها يدور اهتمام المجتمع لكي نستطيع أن نجعل من واقعنا واقعًا متحركًا ينتج حقائقه في عملية تبادل مستمرة مع إنسانه الذي يعايشه. لا بد من حوار مجتمعي اجتماعي الطابع، وحدها العلوم الاجتماعية وتطوير تدريسها وعناية المجتمع بها وبأهميتها تجعل من مثل هذه العقبة «تحديًا» يمكن مواجهته، بينما العقل المطلق بكل أشكاله وأيديولوجياته يرى فيها تهديدًا فيتراجع وينكمش ويتكور حول هُويته وعقيدته.

[email protected]

@A_AzizAlkhater