شَهِدَت التكنولوجيا الماليّة (FinTech) تطورًا كبيرًا على مستوى العالم في السنوات الأخيرة، وأصبحت منطقة الشرق الأوسط، خاصة دول مجلس التعاون الخليجي، جزءًا من هذا التحوّل الرقْمي. وفي هذا السياق، تسعى قطر إلى تنويع اقتصادها من خلال الاستثمار في الابتكار والتكنولوجيا، حيث يُنظر إلى التكنولوجيا المالية كأحد الحلول الفعالة لتقليل الاعتماد على عائدات النفط وتعزيز اقتصاد أكثر استدامة.
لكن ما يجعل هذا التحوّل أكثر إثارة هو الدور المحوري الذي يلعبه الشباب القطري في قيادة هذه الثورة الرقمية، حيث يستفيد روّاد الأعمال الشباب من معرفتهم التقنية وإبداعهم في تطوير حلولٍ ماليةٍ متقدمةٍ، تشمل المدفوعات الرقمية، وتقنية البلوك تشين، والإقراض الرقْمي. غير أن نجاح هذه المشاريع لا يعتمد فقط على الأفكار المبتكرة، بل يتطلب بيئة تنظيمية داعمة، وبنية تحتية قوية، وفرصًا رياديةً تُمكّن الشباب من تحويل أفكارهم إلى شركاتٍ ناجحةٍ ومؤثرةٍ.
يمتلك الشباب القطري مزايا عديدة تجعلهم في طليعة هذا التحول، فهم يتمتعون بمهاراتٍ رقْميةٍ متقدمةٍ، ويميلون إلى تبني الابتكارات التكنولوجية بسرعة، كما أن لديهم قدرةً عاليةً على استيعاب التحولات العالمية في مجال الاقتصاد الرقْمي. وتبرز العديد من الشركات الناشئة في قطر كنماذج ناجحة لمشاريع يقودها شباب استطاعوا توظيف التقنيات الحديثة لابتكار حلول مالية ذكية تناسب احتياجات المستهلكين والشركات على حد سواء.
لكن التحدي الأكبر الذي يواجه هؤلاء الشباب لا يكمن فقط في تطوير الأفكار، بل في القدرة على تحويلها إلى مشاريع مستدامة. فالوصول إلى التمويل، والاستفادة من برامج التوجيه والإرشاد، والتعامل مع الأنظمة التنظيمية يُعدّ من العوامل الرئيسية التي تحدد نجاح الشركات الناشئة في قطاع التكنولوجيا المالية. وهنا يأتي دور الدولة في تقديم الدعم اللازم من خلال بيئة تنظيمية مرنة، وبرامج تمويل موجهة، ومسارات واضحة لتمكين الشباب من دخول هذا القطاع الواعد.
تُظهر التجارِب العالمية أن السياسات التنظيمية تلعب دورًا حاسمًا في تطور التكنولوجيا المالية، حيث يمكن للأنظمة الداعمة أن تسهلَ على الشركات الناشئة دخول السوق والتوسع بسرعة، بينما قد تؤدي القوانين المعقدة أو غير الواضحة إلى إبطاء الابتكار وعرقلة تقدم الشركات الناشئة.
في قطر، عَمِلَ البنك المركزي على تطوير بيئة تنظيمية تشجع على الابتكار في مجال التكنولوجيا المالية، من خلال تقديم تراخيص خاصة للشركات الناشئة، ودعم الابتكارات التقنية في القطاع المالي. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات تحتاج إلى معالجةٍ، مثل الحاجة إلى وضوح أكبر في بعض القوانين، وضرورة تعزيز الفرص التمويلية التي تساعد الشركات الناشئة على التوسّع وتحقيق الاستدامة المالية.
إن تسريع التحوّل نحو الاقتصاد الرقْمي يتطلب تكاملًا بين عدة عوامل، من بينها تعزيز الثقافة المالية لدى رواد الأعمال الشباب، وتوفير فرص تمويل أكثر مرونة، إلى جانب بناء منظومة تشريعية تدعم الابتكار وتُسهّل الإجراءات التنظيمية. فالدول التي تقدم حوافز واضحة وداعمة لشركات التكنولوجيا المالية تشهد معدلات نجاح أعلى في هذا القطاع، مقارنة بتلك التي تضع عقبات تنظيمية غير مرنة أمام الشركات الناشئة.
وبالنظر إلى رؤية قطر الوطنية 2030، التي تركز على بناء اقتصاد قائم على المعرفة، فإن التكنولوجيا المالية تمثل ركيزةً أساسيةً لتحقيق هذا الهدف. فالشباب القطري، بما يمتلكه من مهارات رقْمية وطموح ريادي، قادر على دفع عجلة التحول نحو اقتصاد رقمي متنوع، يواكب التغيرات العالمية، ويوفر فرصًا جديدةً للنمو والابتكار.
إن الاستثمار في التكنولوجيا المالية ليس مجرّد خطوة نحو التنويع الاقتصادي، بل هو استثمار في المستقبل ذاته. فالشباب القطري، إذا توفرت له البيئة المناسبة، قادر على تحقيق قفزاتٍ نوعيةٍ في هذا المجال، ليس فقط داخل قطر، بل على مستوى المنطقة والعالم. لذا، فإن دعم روّاد الأعمال الشباب، وتسهيل العقبات التنظيمية، وتعزيز الثقافة المالية، كلها عوامل ستسهم في جعل قطر مركزًا إقليميًا للتكنولوجيا المالية، وتؤسس لاقتصاد رقْمي أكثر تنوّعًا واستدامةً.