معارك إسلامية.. غزوة الحديبية

إن اللّه قد وعدني ولن يخلفني وعده
كانت في غرّة ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة النبوية، وقد خرج فيها رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) في ألف وأربعمئة، وقيل في ألف وخمسمئة من أصحابه، ومعه زوجته (أم سلمة)، وكان سببها أنه (صلى الله عليه وسلم) رأى في المنام وهو بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أن اللّه يأمره أن يدخل المسجد الحرام، وأن يطوف ويحلق مع المحلّقين. وقيل إنه (صلى الله عليه وسلم) رأى انه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مِفتاح الكعبة، وطافوا واعتمروا، وحلق بعضهم وقصر بعضهم، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، وحسبوا أنهم داخلوا مكة عامهم ذلك, وفي الطريق كان رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) يستنفر الأعراب ومن حوله من البوادي ليخرجوا معه، وهو لا يريد الحرب، ولكن استظهارًا على قريش وحذرًا من أن يعرضوا له بحرب أو صدود عن البيت.
وسار النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى إذا كانوا بغدير الأشطاط أتاه عينه فقال: إنّ قريشًا جمعوا لك جموعًا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت ومانعوك. فقال (صلى الله عليه وسلم): أشيروا عليَّ أيها الناس، فلما لم يرَ منهم إلا الموافقة قال (صلى الله عليه وسلم): امضوا على اسم اللّه، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي (صلى الله عليه وسلم): إنّ خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين، فما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيرًا لقريش.
وسار النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت راحلته القصواء.
فقال أصحابه: خلأت القصواء، خلأت القصواء.
فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) : ما خلأت القصواء، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألونني خُطة يعظمون فيها حرمات اللّه إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت به، فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرّضه الناس تبرضًا، فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكوا إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) العطش، فانتزع سهمًا من كِنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فما زال يجيش بالري حتى صدروا عنه.
فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم): إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإنّ قريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرّت بهم إلا خلّوا بيني وبين العرب؟ فإن أك صادقًا فإنما أجرّ الملك إليهم مع النبوّة، وإن أك كاذبًا كفتهم ذؤبان العرب، لا يسألني اليوم امرؤ من قريش خُطة ليس للّه فيها سخط إلا أجبتهم إليه.
فلما وافى سهيل بن عمرو مع مرافقه رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) وكانا خامس المندوبين إليه، قالا: يا محمد، ألا ترجع عنا عامك هذا إلى أن ننظر إلى ماذا يصير أمرك وأمر العرب، فإن العرب قد تسامعت بمسيرك، فإن دخلت بلادنا وحرمنا، استذلّتنا العرب واجترأت علينا، ونخلي لك البيت في العام القابل في هذا الشهر ثلاثة أيام حتى تقضي نسكك وتنصرف عنّا؟
فأجابهم رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) إلى ذلك.
فقالا له: وترد إلينا كل ما جاءك من رجالنا، ونردّ إليك كل من جاءنا من رجالك.
فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم): من جاءكم من رجالنا فلا حاجة لنا فيه، ولكن على أن المسلمين بمكة لا يؤذَون في إظهار الإسلام، ولا يكرهون، ولا ينكر عليهم شيء يفعلونه من شرائع الإسلام، فقبلا ذلك ورجعا إلى قومهما يخبرانهم بالخبر.
فلما أجابهم رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) إلى الصلح ورجع سهيل وحفص إلى قومهما يخبرانهم بالصلح، أنكر على رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) بعض أصحابه ذلك، حتّى إنّ بعضهم قال: يا رسول اللّه ألسنا على الحق وعدوّنا على الباطل؟
فأجابه رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) قائلًا: نعم.
فقال: فنعطي الذلّة في ديننا؟
فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم): إن اللّه قد وعدني ولن يخلفني وعده.
فقال: يا رسول اللّه ألم تقل لنا أن ندخل المسجد الحرام ونحلق مع المحلّقين؟
فأجابه رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) وقال: أمن عامنا هذا وعدتك، أو قلت لك: إن اللّه عزّ وجل قد وعدني أن أفتح مكة وأطوف وأسعى وأحلق مع المحلّقين؟
ثم قال رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه: ألستم أصحابي يوم بدر إذ أنزل اللّه فيكم: (إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم أَني ممدّكم بألف من الملائكة مردفين).
ألستم أصحابي يوم أُحد: (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم).
ألستم أصحابي يوم كذا؟ ألستم أصحابي يوم كذا؟
فقالوا: اللّه أعلم ورسوله، فاصنع ما بدا لك.