الدوحة -شهد الكبسي:
في قلبِ سوق واقف، حيث يلتقي الماضي بالحاضر، تنبضُ محلات بيع فرش المجالس المصنوعة من السدو بروح التراث الأصيل، فتجذب الزوّار من مُختلِف الفئات، من مواطنين يتطلعون إلى تجديد مجالسهم بروح الأصالة، إلى سياحٍ يبحثون عن تَذكاراتٍ تحمل بصمة الثقافة القطرية. يُعدّ «السدو» من أرقى الفنون التراثية التي تُجسّد هُوية الأجداد وموروثهم العريق، إذ ارتبطت هذه الحرفة اليدوية بحياة البادية، حيث أبدعت النساء في نسج الصوف والوبر بإتقانٍ لصنع تصاميم مميزة تعكس روح الضيافة والكرم العربي. ورغم التطورات العصرية، لا يزال السدو يحظى بمكانةٍ مرموقةٍ في الثقافة القطرية، ويُستخدم في صناعة العديد من المنتجات التراثية التي تحافظ على أصالته، من الخيام المتينة التي تتحدى قسوة الصحراء، إلى المفارش والسجاد الفاخر الذي يُضفي لمسةً تقليديةً على المجالس، بالإضافة إلى المساند والمِخدات والحقائب المزينة بنقوشه الفريدة. كما أصبح عنصرًا فنيًا في الديكورات المنزلية الحديثة، حيث تُزيّن به الجُدران لمنحها طابعًا تراثيًا أصيلًا. وبين الحاضر والماضي، يظل السدو رمزًا للفن اليدوي القطري الذي يعكس الإرث الثقافي بلمساتٍ تحمل عبق الزمن الجميل.
دقة في العمل وحرفية عالية
تمر صناعة السدو بعدة مراحل دقيقة تتطلب مهارةً وصبرًا لضمان جودة المُنتج النهائي. تبدأ العملية بمرحلة «الجزيز والنفيش»، حيث يتم جز الصوف أو الوبر من الإبل والغنم، ثم يُنظف بعناية من الشوائب والأتربة باستخدام أدوات تقليدية مثل المشط اليدوي. بعد ذلك، يتم تفكيك الألياف وتمشيطها لتصبح أكثر نعومة واستعدادًا لعملية الغزل. تأتي بعدها مرحلة «الغزل»، حيث يتم تحويل الألياف إلى خيوطٍ طويلةٍ باستخدام المغزل اليدوي، وهي مرحلة تتطلب مهارة ودقة لتحقيق تجانس في سمك الخيوط. يلي ذلك «البريم»، وهي عملية برم الخيوط لجعلها أكثر تماسكًا ومتانة، ما يضمن تحملها لعملية النسج لاحقًا. بعد تجهيز الخيوط، تنتقل العملية إلى مرحلة «التلوين»، حيث يتم صبغ الخيوط يدويًا باستخدام أصباغ طبيعية مستخلصة من النباتات والمعادن مثل قشور الرمان، والنيلة الزرقاء، وجذور بعض الأشجار، ما يمنح الألوان طابعًا مميزًا يعكس البيئة القطرية. ثم تبدأ مرحلة «النسج»، التي تُعد الأكثر تعقيدًا، حيث يُستخدم النول البدوي في تشكيل التصاميم الهندسية التقليدية مثل المثلثات والمربعات والخطوط المتوازية، بالإضافة إلى رموزٍ مستوحاةٍ من البيئة الصحراوية كالإبل والطيور. يتم النسج بطريقة دقيقة، حيث يتم تمرير الخيط بين الخيوط الأساسية باستخدام أدوات خشبية تُعرف بـ «المشط» و»المكوك»، ما يتطلب تركيزًا وإتقانًا للحفاظ على التناسق في الزخارف والألوان.
تحديات تواجه صناعة السدو
رغم الاهتمام المتزايد بالحرف التقليدية، تواجه صناعة السدو تحديات عدة تهدد استمراريتها وتطورها. من أبرز هذه التحديات هو التطور في التكنولوجيا والمنافسة، وهو يشكل تحديًا كبيرًا، حيث أصبحت الآلات الحديثة قادرةً على إنتاج الأقمشة بكفاءة وسرعة أكبر، ما أدّى إلى تقليل الطلب على السدو اليدوي. إلى جانب ذلك، تتزايد المنتجات المستوردة التي تحاكي شكل السدو التقليدي بأسعار أقل، ما يضع ضغطًا على الحرفيين المحليين للحفاظ على تميز وجودة أعمالهم. ورغم هذه التحديات، يظل السدو القطري والخليجي المصنوع يدويًا الأكثر أصالة، إذ يعكس البيئة المحلية بكل تفاصيلها من مواد خام إلى أساليب الغزل والنسج، بالإضافة إلى زخارفه التراثية الفريدة. أيضًا قد يواجه الحرفيون صعوبة في الحصول على المواد الخام بأسعار معقولة، خاصة الصوف الجيد الذي يُعتبر أساسًا في صناعة السدو. هذه الصعوبة في توفير المواد الأولية تؤدي إلى زيادة التكاليف، وهو ما يؤثر سلبًا على قدرة الحرفيين على تقديم قطع عالية الجودة. التغيرات المناخية لها تأثير مباشر على توفر المواد الأساسية لصناعة السدو، مثل الصوف، حيث قد تؤدي التقلبات المناخية إلى تراجع إنتاج هذه المواد التي تعتبر حيوية لهذه الحرفة.
السدو بين الحداثة والتطوير
بدأ العديد من الفنانين والمصممين في توظيف عناصر السدو في أعمالهم الفنية والديكورات العصرية، ما ساعد في تسليط الضوء على هذه الحرفة التقليدية وتوسيع استخدامها. ولم يعد السدو حكرًا على المفروشات التقليدية فحسب، بل أصبح عنصرًا أساسيًا في تصميم الأزياء والديكورات الداخلية وحتى الفنون التشكيلية. يعكس هذا التطور مرونة الحرف التقليدية وقدرتها على التكيف مع العصر، مع الحفاظ على هُويتها الأصيلة. اليوم، يتم دمج التصاميم الحديثة مع السدو التقليدي، ما يجعله جزءًا من الفنون العصرية والديكور المعاصر، ليظل شاهدًا على تاريخ قطر الغني ومصدرًا للفخر بالهُوية الوطنية.
وفي لقاء لـ [ مع أحد الحرفيين المتخصصين في صناعة السدو، تحدث عن الاستخدامات المتنوعة لهذه الحرفة، مشيرًا إلى أنها لم تعد تقتصر على المجالس التقليدية، بل أصبحت جزءًا من التصاميم الحديثة، حيث يتم استخدامها في الأثاث والمناسبات التراثية وحتى في الديكور الداخلي. وقال: السدو اليوم ليس مجرد حرفة تراثية، بل عنصر من عناصر الهُوية القطرية، يتم توظيفه في العديد من المجالات لإضفاء لمسة أصيلة على المساحات المختلفة.
وعن الفرق بين السدو المستخدم في الخيام والسدو المستخدم في المنازل، أوضح الحرفي أن السدو المستخدم في الخيام يتميز بالقوة والمتانة ليواجه الظروف الصحراوية، بينما يتميز السدو المستخدم في المنازل بملمسه الناعم وأنسجته الأخف، ما يجعله أكثر راحة وجاذبية من الناحية الجمالية.
عند سؤاله عن المدة التي يستغرقها إنتاج قطعة سدو متوسطة الحجم، أجاب بأنها تستغرق حوالي ثلاثة أيام من العمل اليدوي المتواصل. وأضافَ: هذه المدة تشمل غزل الصوف، وصبغه، وتجهيزه، ثم نسجه على النول اليدوي وَفقًا للأنماط التقليدية التي تتميز بها هذه الحرفة. مدة الإنتاج قد تختلف بِناءً على تعقيد التصميم وحجم القطعة، ولكن بشكل عام، فإن الدقة والمهارة اليدوية هما ما يجعلان كل قطعة فريدة من نوعها.
كما تطرق إلى التحديات التي تواجه الحرفة، قائلًا: أحد أكبر التحديات التي نواجهها هو نقص الصوف الطبيعي عالي الجودة، فمع تراجع الاعتماد على الأغنام والإبل كمصادر أساسية، أصبح توفير المواد الخام الجيدة أمرًا صعبًا.
أما عن تأثير التكنولوجيا على صناعة السدو، فقال: التقنيات الحديثة ساعدت في تحسين بعض مراحل الإنتاج، مثل الغزل والصباغة، لكنها لا تستطيع أن تحل محل الدقة اليدوية في النسيج، فالسدو اليدوي يظل أكثر أصالة وجودة، وهذا ما يجذب الناس إليه.
وعند سؤاله عن مدى الإقبال على شراء منتجات السدو، أجاب: الإقبال كبير، خاصة من السياح والمواطنين المهتمين بالتراث، ففي سوق واقف نجد دائمًا زوارًا يبحثون عن قطع مميزة من السدو التقليدي. وأضافَ: الألوان الأكثر شيوعًا هي الأبيض، والبني، والأسود، ولكن في السنوات الأخيرة أصبح هناك طلب متزايد على ألوان مثل الأحمر، والأزرق، والأخضر لتواكب الذوق العصري.
لا يُعتبر السدو مجرد حرفة يدوية، بل هو فن يحمل في خيوطه تاريخ الأجداد وحكايات الزمن القديم. وعلى الرغم من التطورات الحديثة، لا تزال هذه الحرفة تلقى اهتمامًا كبيرًا في قطر، حيث تُعرض في المِهرجانات والأسواق التراثية مثل سوق واقف، كما يتم تعليمها للأجيال الجديدة للحفاظ على هذا الإرث الثقافي العريق.